فإن من المتسالم عليه لدى الأمة المسلمة نظرا إلى النبوة الخاتمة وشؤونها الخاصة ، الإذعان بعلم النبي الأقدس ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالملاحم والفتن ، وما جرى على أهل بيته وعترته وذي قرباه وذويه قلة وكثرة من المصائب الهائلة ، وطوارق الدهر المدلهمة ، والنوازل الشديدة ، والنوائب الفادحة ، والدواهي والكوارث ، والقتل الذريع ، إلى جميع ما دهمهم من العذاب والنكال والسوء والاسر والسباء .
وعلمه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا من شؤون ولايته الكبرى المطلقة العامة الشاملة على كافة البرية ، كما أن ترك العمل بذلك العلم ، وجعله وراء الصفح والصبر كأن لم يكن أمرا مقضيا ، وعدم ترتب أي أثر عليه من أخذ أولئك الرجال ، رجال الجور والظلم ، رجال العيث والفساد بما يعلمه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منهم ، وإقامة الحد قبل الاعتداء ، والقصاص قبل الجناية ، والعقوبة قبل الإساءة ، أو قطع الصلات عن الفئة الباغية ، وعدم حسن المعاشرة مع الزمرة العادية ، وطرد من علم منه البغي والعسف والعداء لأهله وعترته عن ساحته ، وإبعاده عن جنابه ، أيضا من شؤون الولاية ولا يتحمل هذا العب ء الفادح بشر قط ، ولا يجتمع هذا العلم وهذا الصفح في أحد من أولاد آدم ، ولا يتصور هذا الشأن في أي إنسان سوى من له الولاية .
وهذا موضوع هام واسع النطاق جدا من علوم الدين لو فصلنا القول فيه لأتى كتابا ضخما مفردا . فالحالة هذه تقتضي أن يكون رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ناظرا طيلة حياته إلى كل تلكم الحوادث والرزايا والمصائب الحالة بساحة أهل بيته وأعزائه ، وأفلاذ كبده ، وجلدة ما بين عينيه ، من حبيبته وبضعته وابن عمها الصديق الأكبر وما ولدا من الذرية الطيبة ، كأنه كان ينظر إليها من وراء ستر رقيق ، وكان مهما ينظر إلى أحد منهم من كثب يتجسم بطبع الحال بين عينيه ما كان تحويه هواجسه ، فكان مدى حياته يبدو الحزن والكآبة في أساريره بحكم الطبيعة ، والشجو والأسى لا يفارقانه ، كان منغص العيش يسر الزفرة ، ويخفي الحسرة ، ويجرع الغصة .
ومهما وجد جوا صافيا يعالج لوعة فؤاده ، ويطفي لهفة قلبه ، ويخمد نائرة الحزن بأن يضم أحدا من أهله على صدره ، ويشمه ويقبله ، ساكبا عبرته ، باكي العينين ، وفي لسانه ما يتسلى به خاطره . فتراه يلتزم عليا سيد عترته وابن عمه وأبا ولده في قارعة الطريق ويقبله ويكرر قوله : بأبي الوحيد الشهيد ، كما أخبرت بذلك السيدة عائشة أم المؤمنين فيما أخرجه عنها الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ، وأخذه عنه جمع من الأعلام ، وقد ذكرناهم في كتابنا الغدير .
وأخرج الحفاظ بأسانيدهم الصحيحة عن ابن عباس قال : خرجت أنا والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلي ( رضي الله عنه ) في حيطان المدينة ، فمررنا بحديقة فقال علي ( رضي الله عنه ) : ما أحسن هذه الحديقة يا رسول الله ؟ فقال : حديقتك في الجنة أحسن منها . ثم أومأ بيده إلى رأسه ولحيته ، ثم بكى حتى علا بكاه . قيل : ما يبكيك ؟ قال : ضغاين في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني .
وفي لفظ عن أنس بن مالك : ثم وضع النبي رأسه على إحدى منكبي علي فبكى ، فقال له : ما يبكيك يا رسول الله ؟ ( صلى الله عليك ) قال : ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها حتى أفارق الدنيا . الحديث .
وفي لفظ عن أمير المؤمنين : فلما خلا لي الطريق ، اعتنقني ثم أجهش باكيا ، قلت : يا رسول الله ما يبكيك ؟ قال : ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي . الحديث ( 1 ) .
وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يستحفيه عن صبره وجلدة ويقول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كيف صبرك إذا خضبت هذه من هذه ؟ وأهوى بيده إلى لحيته ورأسه ، فقال علي : أما بليت ما بليت فليس ذلك من مواطن الصبر ، وإنما هو من مواطن البشرى والكرامة ( 2 ) فيتسلى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك الكلام الطيب المعرب عن عظمة نفسيات علي ( عليه السلام ) ومبلغ تفانيه في الله تعالى . وتراه يضم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبا محمد الحسن السبط إلى صدره ويقبله من فمه وسرته لما يتذكر بأن أحشاءه من فمه إلى سرته ستقطع بالسم النقيع . ويضم الحسين السبط إليه ويشمه ويقبله ويقبل منه مواضع السيوف والرماح والطعون ويخص من جوارحه بالقبلة شفتيه ، علما منه بأنهما ستضربان بالقضيب .
يقيم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على حسينه وريحانته مأتما حينا بعد حين في بيوت أمهات المؤمنين ، ومهما اشتد عليه حزنه يأخذ حسينه على حضنه ويأتي به إلى المسجد إلى مجتمع الصحابة وهو يبكي ، وعيونه تدمع ، ودموعه تسيل ، فيريهم الحسين الرضيع وتربة كربلائه في يده ويقول لهم إن أمتي يقتلون هذا ، وهذه تربة كربلاء . أو يأخذ تربته : تربة كربلاء ويشمها ويبكي وفي لسانه ذكر مقتله ومصرعه ، وهو يقول : ريح كرب وبلاء . أو يقول : ويح كرب وبلا ، أو يقول : كربلاء ، أرض كرب وبلاء .
أو يقول : والذي نفسي بيده إنه ليحزنني ، فمن هذا يقتل حسينا بعدي ؟ أو يأخذ حسينا على حجره وفي يده تربته الحمراء وهو يبكي ويقول : يا ليت شعري من يقتلك بعدي ؟ ( 3 ) .
وترى الصديقة الطاهرة لما يخبرها أبوها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنها أسرع لحوقا به من أهل بيته يسرها هذا النبأ وتأنس به ( 4 ) ، وإن هو إلا لعلمها بأن حياة آل محمد حفت بالمكاره والقوارع والطامات ، ولولا الحذر والجزع من تلكم المصائب الهائلة النازلة بساحتهم فأي مسوغ للزهراء فاطمة في استيائها من حياتها ؟ وحياتها السعيدة هي أحسن حياة وأحلاها وأسعدها وأجملها وأعظمها فخرا ، زوج هو شاكلة أبيها في فضائله وفواضله ، وأولاد من البنين مثل الحسنين ريحانتي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، سيدي شباب أهل الجنة ، لا يمثلان بنظير ، ويقصر عن بلوغ نعتهما وصف كل بليغ طلق ذلق ، ومن البنات مثل العقيلة زينب ، جوهرة القدس والكمال والشرف والمنعة .
فلماذا تستاء عندئذ فاطمة من الحياة وهي بعد في عنفوان شبيبتها الغضة لم تبلغ مناها ، ولم تنل آمالها من الحياة ؟
ولماذا تدعو وتسأل ربها أن يعجل لها وفاتها ، وهي بعد لم تدرك من أولادها ما تتمناه الأمهات ، وتهون دون تلكم الأماني عليهن المصائب ، وتحلو لديهن مرارة الدنيا . وتفدي دونها كل تليد وطارف ؟
ولماذا ترفع اليد عن حضانة أولادها ، وتفرغ منهم حجرها ، وترضى بيتمهم ، وهم بعد ما شبوا وما زهوا ؟
ولماذا تأنس بذبول أورادها أوراد آل محمد وهي في بدو النضارة ولم تحظ بعد من تلكم الأزهار ؟
ولماذا تعيف أنوار حقلها الزاهي ولم تفتح بعد أكمامها ؟
ولماذا تحب فراق بعلها ، وتدع حبيبها أليف الأسى والهم والجوى ، حزنه بعدها سرمد ، وليله في فراقها مسهد ؟
ولماذا ذلك الفرح والجذل من اقتراب الأجل ودنو الموت ؟
إن كل هذه إلا تخلصا من هول تلكم النوائب التي كانت تعلمها أخذا من أبيها الصادق المصدوق ، ولم تك فاطمة ( سلام الله عليها ) تتصور لنفسها منجى ومرتجى وملجأ تثق بالطمأنينة لديها ، وسكون الخاطر في حماها غير جوار ربها الكريم ، والغض عن هذه الحياة ومرارتها وحلاها . ماذا تصنع فاطمة بالحياة وهي ترى أباها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طيلة حياته حليف الشجون ؟
قد قضى حياته بعين عبرى ، وقلب مكمد محزون ، وزفرة وحسرة ولهفة دفينة بين جوانحه كمدا على أهل بيته ، يقيم لحسينه السبط المأتم من لدن ولادته وهلم جرا يوم كان رضيعا وفطيما وفتيا ، وقد اتخذ الله بيوت نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دار حزن وبكاء منذ ولد ريحانة رسول الله الحسين العزيز ، يأتي إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ملائكة ربه أفواجا زرافات ووحدانا ، حينا بعد حين ، مرة بعد أخرى ، بين فينة وفينة ، ينعون الحسين ، ويأتون إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتربته الحمراء ممثلين بذلك مصرعه ومقتله .
هذه مواقف تاريخية إسلامية هامة سجل لنا التاريخ منها شطرا وإن لم تبق لنا الظروف الغابرة منها إلا النزر اليسير ، فإليك نبذة منها :
____________________
( 1 ) أخرجه بالطرق الثلاث ، البزار في مسنده ، والطبراني في الكبير ، وأبو يعلى في المسند ، وابن عساكر في تاريخ الشام ، والهيثمي في المجمع ، وجمع آخر ذكرناهم في كتابنا الغدير لدى مسند أمير المؤمنين ، وابن عباس ، وأنس .
( 2 ) أخرجه الحافظ الطبراني في المعجم الكبير الموجود لدينا ولله الحمد . ( * )
( 3 ) ستوافيك أحاديث هذه كلها بأسانيدها ومصادرها ونصها وفصها بعيد هذا .
( 4 ) أخرج حديثه أحمد في المسند ، وأبو يعلى في المسند ، وابن أبي شيبة في المصنف ، والنسائي في الخصائص والترمذي في الصحيح ، وأبو الحسن الحربي في جزء له ، والطحاوي في مشكل الآثار ، والدارقطني في العلل ،
وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الدلائل وآخرون كثيرون بأسانيدهم الصحيحة عن السيدة عايشة أم المؤمنين . ( * )
وأما حسيننا ومأتمه وكربلاؤه
- الزيارات: 1770