جامِعُ الدين و العِلْم و العقل
روى الشيخ عبد الله المامقانى في كتاب « تنقيح المقال » عن أبيه أن المولى البهبهاني سُئِل عن الصلاة خلف الشيخ يوسف صاحب الحدائق ـ و كانا معاصرين ـ فقال : لاتصح . . و سُئِل الشيخ يوسف عن الصلاة خلف البهبهاني ؟ فقال : تصح . . فقيل له : كيف تصححها خلف من لايصحح الصلاة بصلاتك ؟ ! . . قال : و أيّ غرابة في ذلك ؟ ! انّ واجبي الشرعي يحتّم عليّ أن أقول ما اعتقد ، و واجبه الشرعي يحتّم عليه ذلك ، و قد فعل كل منا بتكليفه و واجبه . . و هل تسقط عنه العدالة لمجرد أنه لايصحح الصلاة خلفي ؟ ! . .
للشيخ محمد جواد مغنية (رحمه الله) تعليق على هذه الرائعة و هو يقصد الشيخ يوسف البحراني :
أرأيت هذا القلب الكبير الذي لايخفق بغير الايمان ؟ . . أرأيت هذا الصدر الرحب الذي يتسع للعدالة ، و ان تكن عليه لا له ؟ . . أرأيت هذه النفس التي لاتعرف الاّ الصدِ و الانصاف و التواضع . .
و ليس من شك أنّ هذا المنطق غريب على أكثرية شيوخ هذا العصر . . لأن كل شيخ من هذه الأكثرية أو الكثرة يرى الدين مجسَّماً في شخصه بالذات . . فعدم الثقة به معناه عدم الثقة بالدين ، و هذا عنده هو حدّ الكفر أو الفسق على الاقل . .
اما مَن جمع بين الدين و العلم و العقل ، اما من ينوب عن المعصوم حقاً و يمثله في حماية الشريعة و احيائها فلايرى في هذا المنطق أيّ غرابة ما دام الدين يحتم الصراحة و إعلان الحق ، حتى و لو كان على النفس ( يا أيّها الذين آمَنوا كونوا قوّامين بالقِسْط شهداءَ للهِ و لو على أنفسِكم أو الوالديْن و الاقربين )([1]) .
و لاأدري كيف يسمح أحدنا لنفسه أن يتكلم باسم الدين ، و يدعي النيابة عن المعصوم ، و يدعو الناس الى الاقتداء به ، مع العلم بأنه لايقتدي بمن ادّعى النيابة عنه عند ما يُمتحَن بكلمة تشبه كلمة البهبهاني بحق الشيخ يوسف . . . بل يتنكر لقائلها ، و يبخسه جميع حقوقه ، و يسلبه أظهر ما تحلى به من صفات ، و اذا نصحه ناصح بالكف أو الاعتدال قال ان واجبي الشرعي يحتمّ عليّ هذا و أكثر من هذا . .
و الآن ـ ايها القارىء ـ هل ظهر لك الفرِ بين الأنانيين و المزيّفين الذين يكيّفون الدين حسب شهواتهم و أهوائهم ، و بين صاحب الحدائق الذي اتقى الله حقاً ، و نطق بكلمة الحق و الاخلاص مؤثراً أمر الله و مرضاه على نفسه و هواه .
و نختم هذه الكلمة بالمقارنة التالية : سألت شيخاً عاد من النجف الأشرف الى بلاده عاملة : هل بنيتم ـ سيادتكم ـ على الاجتهاد ؟
فقال : ألمثلي يقال هذا ؟ !
و تعرض الشيخ يوسف صاحب الحدائق في كتاب « الدرر النجفية » ص 53 لمعنى الاجتهاد ، و للشروط المعتبرة في الفقيه ، و لأقوال العلماء ، ثم قال ما نصّه بالحرف الواحد : و « انا أقول : و ان كنت ممن يقصر عن السياِ في مضمار هؤلاء الفحول ، و يكبو جواده عن اللحاِ في ميدان تلك العقول » .
و هكذا هم علماء آل البيت (عليهم السلام) يزدادون تواضعاً كلما ازدادوا علماً ( توفي سنة 1186 هـ ) .([2])
--------------------------------------------------------------------------------
[1]ـ النساء / 135 .
[2]ـ نفس المصدر / ص 74 .